تظاهرات غزة واليهود- نحو خطاب إسلامي منصف ومتجدد

المؤلف: د. عصام تليمة08.07.2025
تظاهرات غزة واليهود- نحو خطاب إسلامي منصف ومتجدد

لقد رأى العالم بأسره التحركات الجماهيرية التي قام بها الطلاب والأساتذة في العديد من الجامعات الأمريكية المرموقة، حيث انطلقوا في مظاهرات عارمة تعبر عن تضامنهم العميق مع أهالي غزة وقضية فلسطين العادلة. وقد لوحظت الأعلام الفلسطينية ترفرف عالياً في سماء هذه الاحتجاجات. ومن بين المشاركين في هذه المظاهرات، برز طلاب وأساتذة من الديانة اليهودية يقيمون في دول الغرب، سواء في أمريكا أو أوروبا، معلنين رفضهم القاطع للعدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، ومستنكرين بشدة الممارسات الوحشية والمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي.

ومع اتساع نطاق هذه التظاهرات التضامنية وازديادها، ستتعاظم هذه المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية حتماً. وقد أثار هذا الأمر تساؤلات مهمة لدى متابعي الخطاب الإسلامي، قديماً وحديثاً، حول النظرة الموروثة عن اليهود. ففي الماضي، كان الخطاب الإسلامي المعاصر يتناول اليهود بصورة نمطية، وكأنهم كتلة واحدة ذات وجهة نظر موحدة تجاه قضايا الأمة الإسلامية. وهذا التصور كان ناتجاً عن خطاب اعتمد في غالبه على الوعظ والتأطير العام، دون الغوص في التفاصيل والتحليل الدقيق.

غالباً ما يُلاحَظ خلط وعدم تمييز بين ثلاثة مصطلحات هامة، في حين أنه من الضروري جداً التفريق والتفصيل بينها، وهي: بنو إسرائيل، واليهود، والصهاينة. فلكل مصطلح من هذه المصطلحات دلالته الخاصة وأوصافه المتميزة التي تختلف في التعامل معها عن غيرها. وهذا ما نلاحظه بوضوح في خطاب القرآن الكريم عند تناوله للمخالف، فهو لا يعمد إلى التعميم وإصدار الأحكام المطلقة، بل يميز بدقة بين مختلف الفرق والطوائف، وعند الحديث عن أي مجموعة، يفسح المجال للاستثناءات، حتى لو كان الحكم العقدي عليهم جميعاً واحداً، وهو عدم الإيمان بالإسلام.

تجديدات القرضاوي

من بين الشخصيات البارزة التي قدمت تجديدات جوهرية في الخطاب الإسلامي في عصرنا، يبرز اسم الشيخ يوسف القرضاوي، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع اليهود. فقد أكد على ضرورة التمييز بين المعتدين منهم، وهم من يطلق عليهم "الصهاينة"، وبين غير المعتدين الذين لا ينتمون إلى الصهيونية، بل يلتزمون باليهودية كدين سماوي، دون ممارسة أي أعمال عدوانية ضد الأفراد أو الدول.

منذ عقدين من الزمن، أصدر القرضاوي كتابه القيم "خطابنا الإسلامي في عصر العولمة"، وقد تناول فيه قضية هامة تتعلق بموضوعنا، حيث رفض بشدة دعوات بعض المشايخ التي كانت تنادي بالدعاء على اليهود أو النصارى بالهلاك المطلق، وأن يُيتّم أطفالهم، ويُرمل نساءهم، ويجعلهم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين.

لقد نبذ القرضاوي هذا النهج المتطرف، ووصف هذه الأدعية بـ"الأدعية الاستفزازية"، مؤكداً أنها تخالف منهج القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في الدعاء والتعايش السلمي مع غير المسلمين. وأوضح أن الدعاء يجب أن يكون على المعتدين والظالمين من جميع الديانات، بمن فيهم المسلمون، وليس على أتباع ديانة بأكملها.

ليسوا أحفادًا للقردة والخنازير

كما استنكر القرضاوي بشدة ما يروج له بعض الدعاة والخطباء، أو حتى عامة الناس، من إطلاق وصف "أحفاد القردة والخنازير" على اليهود، معتبراً أن هذا الوصف لا يجوز شرعاً، وأنه تعبير استفزازي لا يليق بالخطاب الديني القويم. وفضل القرضاوي في مخاطبة الآخر الديني استخدام مصطلح "غير المسلمين" بدلاً من مصطلح "الكفار"، وبخاصة أهل الكتاب منهم، الذين أولاهم القرآن الكريم عناية خاصة في الحديث، ومنحهم مكانة مرموقة في التعامل.

هذه التجديدات القيمة في الخطاب الإسلامي، سواء التي قدمها القرضاوي أو غيره من العلماء الأجلاء، مثل الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة، لم تصل إلى شريحة واسعة من عامة الناس، وظلت أفكارهم النيرة محصورة في دائرة الباحثين والمهتمين بكتب وإصدارات هؤلاء العلماء. ولذلك، عندما وقعت أحداث مماثلة، وجد البعض أنفسهم في حيرة بين الأفكار الموروثة عن اليهود والواقع الملموس الذي يشاهده الناس، وخاصة في أوروبا وأمريكا.

ميزان قرآني دقيق

ومما زاد الطين بلة، هو استدلال أصحاب هذا الخطاب الرافض بنصوص قرآنية ونبوية مجتزأة، دون مراعاة موقف القرآن الشامل من هذه القضايا، والاعتماد على نصوص جزئية يتم الاستشهاد بها دون الإلمام بالنظرة الكلية للقرآن في التعامل مع المخالف الديني، سواء كان يهودياً أو مسيحياً أو غير ذلك. وهذا يمثل تعميماً مخلّاً، وابتعاداً عن روح الإنصاف التي نادى بها القرآن الكريم.

فالمنهجية القرآنية الرصينة تقدم حلاً لهذه الإشكالية، من خلال الميزان الدقيق الذي لا يختل، والذي يراعي الإنصاف وعدم التعميم في الخطاب. ولو تأمل القارئ بدقة في كل آية قرآنية تتحدث عن الناس أو الشرائح المجتمعية، سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة، فسوف يجد كلمات مثل "ومن" و"ومنهم" و"ليسوا سواء"، وغيرها من الصيغ التي تدل على التبعيض في سياق الحديث عن شريحة معينة من الناس، وهي بذلك تستثني من هذه الشريحة من يأتي بعد هذا الاستثناء، مما يقود القارئ والمتبع إلى الإنصاف في التعامل أو الحكم على الناس.

كثيرا ما يحدث الدمج دون تفرقة بين مفردات ثلاثة: "بنو إسرائيل، واليهود، والصهاينة" مع أن لكل مفردة منها مدلولها الخاص وأوصافها التي تختلف عن الأخرى

وهذا الميزان القرآني الدقيق يتجلى بوضوح عند استقراء النصوص، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة" (آل عمران: 113)، فالآية الكريمة هنا تنفي عن أهل الكتاب أنهم جميعاً على توجه واحد، وأنهم سواء في الحكم عليهم. وقوله تعالى: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما" (آل عمران: 75)، فهنا تبين الآية الكريمة سلوك أهل الكتاب في التعامل المالي، وأنهم ليسوا كتلة واحدة، ولا أصحاب سلوك واحد، فمنهم من يؤتمن على قنطار من الذهب، يستدينه ويؤديه إليك، ومنهم من لا يؤتمن على دينار واحد، إلا إذا ظللت مثابراً في المطالبة به.

وعندما يتحدث القرآن الكريم عن اليهود، وعمن ارتدوا عن الإسلام وكذبوا رسوله، في سياق ذكر صفاتهم السيئة، لا يعمد إلى التعميم، بل يترك مساحة للاستثناء، فيقول تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" (المائدة: 13)، فنلاحظ هنا قوله تعالى: "إلا قليلا منهم". وقد ذكر الإمام ابن عطية: "ثم استثنى – تبارك وتعالى – منهم القليل، فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص، ويحتمل أن يكون في الأفعال".

ويقول الإمام محمد عبده: "وأما قوله: إلا قليلا منكم فهو استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام، أو في كل زمن، فإنه لا تخلو أمة من الأمم من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم. والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهي إذا فشا فيها المنكر، وقلّ المعروف".

ومن هذه النماذج الكثير في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ما يدلل على أن النظرة للناس، سواء من وافقونا أو خالفونا في العقيدة، لا تكون نظرة عامة مجملة، بل تكون قائمة على الإنصاف والعدل، وأنه لن نعدم وجود المنصف والقائم بالحق عند المخالف، وبخاصة في القضايا الإنسانية المشتركة والعيش الكريم، وأن هناك عوامل جمة تصنع التغيير الإيجابي في سلوك الناس وفي مواقفهم. وفي المقابل، هناك عوامل أخرى تصنع التعصب والضيق بالآخر، والاعتداء عليه وعلى دمه وأرضه وماله.

تبقى هناك نصوص تتحدث عن الآخر الديني، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو غيره، وبخاصة الحديث عن صفات اليهود على سبيل المثال، وموقفهم من الإسلام وثوابته، فهل كان حديث القرآن حديثاً عاماً عن كل يهودي في أي بقعة من الأرض، أم عن فئة محددة؟ وهل كان عن صفات دائمة ومستقرة لا تقبل التغيير، أم عن صفات تنتج عن موقف عقدي وانغلاق يستتبعه ما ذكره القرآن؟ وهل جاء الخطاب القرآني فيها بصفة التعميم، كقانون قرآني لا ينخرم، بالحكم على طائفة كاملة لا يختلف فيها جيل عن جيل؟ الجواب على هذه التساؤلات يحتاج إلى تفصيل في مقال آخر بإذن الله، ولبيان وجهة نظر القرآن في حديثه عن العقيدة والإيمان بها، وحديثه عن المعاملة والعيش المشترك، وما جرى من خلط مؤسف بينهما في خطابنا الإسلامي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة